فصل: فصل (فيما تصدق بدلا من الجهاد لعدم قدرته عليه):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
لمَّا صَدَقَ منهم اللجاء تداركهم بالشِّفاء وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكَوِّرُ نهار اليُسْرِ على ليالي العُسْر، ويُطلِعُ شموسَ المحنة على نحوس الفتنة، ويُدِير فلكَ السعادة فيمحق تأثير طوارق النكاية؛ سُنَّةٌ منه- تعالى- لا يُبَدِّلها، وعادةٌ منه في الكَرَمِ يُجْرِيها ولا يحوِّلها. اهـ.

.قال ابن القيم:

.فصل: في غزوة تَبُوك وكانت في شهر رجَب سنةَ تسع:

قال ابن إسحاق: وكانت في زمن عُسْرَةٍ مِنَ الناس، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طابت الثمارُ، والناس يُحبون المُقام في ثمارهم وظِلالهم، ويكرهون شُخوصهم على تلك الحال، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوة إلا كنَّى عنها، وورَّى بغيرها، إلا ما كان مِن غزوة تَبُوك، لبُعْد الشُّقة، وشِدة الزمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم، وهو في جَهَازه للجَدِّ بنِ قيس أحد بنى سلمة: «يا جَدُّ؛ هَلْ لَكَ العَامَ في جِلاَدِ بَنى الأَصْفَرِ»؟ فقال: يا رسول الله؛ أَوَ تأذنُ لى ولا تَفْتِنِّى؟ فواللهِ لقد عرف قومى أنه ما مِن رَجُلٍ بأشدَّ عجبًا بالنساء منى، وإنِّى أخشى إن رأيتُ نساءَ بنى الأصفر أن لا أصبِرَ، فأعرضَ عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ»، ففيه نزلت الآية: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة: 49].
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفِرُوا في الحَرِّ، فأنزل الله فيهم: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ في الْحَرِّ} الآية [التوبة: 81].
ثُم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ في سفره، وأمر الناسَ بالجَهَاز، وحضَّ أهلَ الغِنَى على النفقة والحُملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغِنَى واحتسبُوا، وأنفق عثمانُ بن عفانُ في ذلك نفقةً عظيمة لم يُنفِقْ أحدٌ مِثلها.
قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأحْلاسها وأقتابِها وعُدَّتها، وألفَ دينار عَيْنًا.
وذكر ابنُ سعد قال: بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الرومَ قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ، وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقدِّموا مقدماتهم إلى البلقاء.
وجاء البكَّاؤون وهم سبعة يستحمِلُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا أجدُ مَا أَحْمِلُكم عَلَيْه»، فتولَّوْا وأعينُهم تفيضُ من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما يُنفقون، وهم سالمُ بن عُمير، وعُلْبَةُ بنُ زيد، وأبو ليلى المازنى، وعمرو بن عَنَمَة، وسلمة بن صخر، والعِرباض بن سارية.
وفى بعض الروايات: وعبد الله بن مُغَفَّل، ومعقِلُ بن يسار.
وبعضهم يقول: البكَّاؤون بنو مُقَرِّن السبعة، وهم من مُزينة. وابن إسحاق: يعدُّ فيهم عَمْرو بن الحُمام بن الجَموح.
وأرسل أبا موسى أصحابُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيحمِلهم، فوافاه غضبان، فقال: «واللهِ لا أحملكم، ولا أَجدُ ما أحمِلُكم عليه»، ثم أتاه إبل، فأرسل إليهم، ثم قال: «مَا أَنَا حمَلْتُكُم، ولَكِنَّ الله حَمَلَكُم، وإنِّى وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الذي هُوَ خَيْرٌ».

.فصل [فيما تصدق بدلا من الجهاد لعدم قدرته عليه]:

وقام عُلبة بن زيد فصلَّى من الليل وبكى، وقال: اللَّهُمَّ إنَّك قد أمرتَ بالجهاد، ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوَّى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحمِلُنى عليه، وإنى أتصدَّق على كل مسلم بكل مَظْلِمَةٍ أصابنى فيها مِن مال، أو جسد، أو عِرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيْنَ المُتَصَدِّقُ هذِهِ اللَّيْلَة»؟. فلم يقم إليه أحد، ثم قال: «أَيْنَ المُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ»، فَقَام إليه، فأخبرَه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَبْشِرْ فَوالذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ في الزَّكَاةِ المتَقَبَّلَة».
وجاءَ المعذِّرُونَ من الأعرابِ ليؤذن لهم، فلم يَعْذِرْهم.
قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلًا، وكان عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سَلول قد عسكر على ثنية الوَداع في حُلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلِّ العسكرين، واستخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى. وقال ابن هشام: سباع بن عُرْفُطَةَ، والأول أثبت.
فلما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف عبدُ الله بن أُبَىّ ومَنْ كان معه، وتخلَّف نَفَر مِن المسلمين مِن غير شك ولا ارتياب، منهم: كعبُ بن مالك، وهِلالُ ابن أُمية، ومُرَارَةُ بنُ الربيع وأبو خَيثمة السالمى، وأبو ذر، ثم لحقه أبو خيثمة، وأبو ذر، وشهدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفًا مِن الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة يقصُر الصَّلاة، وهِرَقْلُ يومئذِ بحمص.
قال ابن إسحاق: ولما أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الخروجَ، خلَّف علىَّ بنَ أبى طالب على أهله، فأرْجَفَ به المنافقون، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالًا وتخففًا منه، فأخذ علىُّ رضى الله عنه سِلاحه، ثم خرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجُرْفِ، فقال: يا نبىَّ الله؛ زعم المنافقون أَنك إنما خلَّفتنى لأنك استثقلتنى وتخففتَ منى، فقال: «كَذَبُوا، ولكِنِّى خَلَّفْتُكَ لما تركْتُ وَرَائِى، فارْجعْ فَاخْلُفْنى في أهْلِى وَأَهْلِكَ، أَفَلاَ تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسى؟ إلا أنَّهُ لا نَبِىَّ بَعْدِى» فرجع علىُّ إلى المدينة.
ثُمَّ إنَّ أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أيامًا إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشينِ لهما في حائطه، قد رشَّت كُلُّ واحدة منهما عريشَها، وبرَّدَتْ له ماء، وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل، قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحِّ، والرِّيح، والحر، وأبو خيثمة في ظِلٍّ بارد، وطعام مُهَيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَفِ، ثم قال: واللهِ لا أدخل عريشَ واحدة منكما حتى ألحقَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهيِّئا لى زادًا، ففعلتا، ثم قدَّم ناضِحه، فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تَبُوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عُميرُ بن وهب الجمحى في الطريق يطلُب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا حتى إذا دنوا من تَبُوك، قال أبو خيثمة لِعُمير بن وهب: إنَّ لى ذنبًا، فلا عليك أن تتخلَّف عنى حتى آتىَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ففعل حتى إذا دنا مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتَبُوك، قال الناس: هذا راكبٌ على الطريق مُقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبَا خَيْثَمَةَ» قالوا: يا رسول الله؛ هو واللهِ أبو خيثمة، فلما أناخَ أقبل، فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أوْلى لَكَ يَا أبَا خَيْثَمَة»، فأخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرَه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرًا ودعا له بخير.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرَّ بالحِجْر بديار ثمود، قال: «لا تَشْرَبُوا مِنَ مَائِهَا شَيْئًا، وَلا تَتَوَضَّؤوا مِنْهُ لِلصَّلاةِ، وما كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوه فَاعْلِفُوهُ الإبِلَ، ولا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، ولا يَخْرُجَنَّ أحَدٌ منكم إلا ومعه صَاحِبٌ له»، ففعل النَّاسُ، إلا أنَّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدُهما لحاجته، وخرج الآخرُ في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته، فإنه خُنِق على مذهبه، وأما الذي خرج في طلب بعيره، فاحتملته الريحُ حتى طرحته بجبلى طيئ، فأُخبرَ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألمْ أنْهَكُم أَنْ لا يَخْرُجَ أحَدٌ مِنْكُم إلاَّ ومَعَهُ صَاحِبُه»، ثم دعا للذى خُنِقَ على مذهبه فشُفى، وأما الآخر، فأهدته طيئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
قلت: والذى في صحيح مسلم، من حديث أبى حُمَيد: انطلقنا حتى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سَتَهُبُّ عَلَيْكُم اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُمْ مِنْكُم أحَدٌ، فَمنْ كانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالهُ» فهبَّت رِيحٌ شَدِيدَة، فقام رجل فحملته الريحُ حتى ألقته بِجَبَلَىْ طَيِّئ.
قال ابن هشام: بلغنى عن الزُّهْرى أنه قال: لما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجْر، سجَّى ثوبه على وجهه، واستحثَّ راحلته، ثم قال: «لا تَدْخُلُوا بُيوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم إلاَّ وَأَنْتُم بَاكُونَ خَوْفًا أنْ يُصِيبَكُم مَا أَصَابَهُمْ».
قلت: في الصحيحين من حديث ابن عمر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَدْخُلوا عَلى هؤلاءِ القَوْمِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لم تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلوا عَلَيْهِم لا يُصِيبُكم مِثْلُ مَا أَصَابَهُم».
وفى صحيح البخارى أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه.
وفى صحيح مسلم: أنه أمرهم أن يَعْلِفوا الإبلَ العَجِينَ، وأن يُهرِيقُوا الماءَ، ويستقوا من البئر التي كانت تَرِدُها الناقة. وقد رواه البخارىُّ أيضًا، وقد حفظ راويه ما لم يحفظه مَنْ روى الطرح.
وذكر البيهقىُّ أنه نادى فيهم: الصلاةَ جامعة، فلما اجتمعوا، قال: «علامَ تدخُلون على قوم غَضِبَ اللهُ عليهم»، فناداه رجل فقال: نَعْجَبُ مِنْهُم يَا رَسول الله، فقال: «ألاَ أُنْبِئُكُم بِما هُوَ أعْجَبُ مِنْ ذلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أنْفُسِكُم يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُم وَمَا هُو كَائِنٌ بَعْدَكُم، اسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَعْبأُ بِعَذِابِكُم شَيْئًا، وَسَيأتِى اللهُ بِقَوْمٍ لا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفْسِهِم شيئًا».

.فصل [في قلة الماء يوم تبوك]:

قال ابن إسحاق: وأصبح الناسُ ولا ماء معهم، فَشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلَ الله سُبحانه سحابةً، فأمطرت حتى ارتوى الناسُ، واحتملُوا حاجَتهم من الماء.
ثم إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعضِ الطريق، ضلَّت ناقتُه، فقال زيد بن اللُّصَيْتِ وكان منافقًا: أليس يزعُمُ أنه نبى، ويُخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقتُه؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ رَجُلًا يَقُولُ، وذَكَرَ مَقَالَتَهُ، وإنِّى والله لا أعْلَمُ إلاَّ ما عَلَّمنى اللهُ، وقَدْ دَلَّنى اللهُ عَلَيْهَا، وهى في الوَادى في شِعْبِ كَذا وكَذَا، وقَدْ حَبَسَتْها شَجَرَةٌ بِزِمَامِها، فانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتونى بها» فذهبوا فأَتَوْهُ بها. وفى طريقه تلك خَرَصَ حديقة المرأة بعشرة أوسق.
ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتخلَّف عنه الرجلُ فيقولون: تخلَّف فلان، فيقول: «دَعُوه فإنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ، فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُم، وإنْ يَكُ غَيْرَ ذلِكَ، فَقَد أرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ». وتلوَّم على أبى ذَرٍ بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه على ظهره، ثم خرج يتبعُ أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، فنظر ناظر مِن المسلمين فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ هذا الرجل يمشى على الطريق وحدَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبَا ذَرٍ»، فلما تأمله القومُ، قالوا: يا رسول الله؛ واللهِ هو أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللهُ أبا ذَرٍ؛ يَمْشِى وَحْدَهُ، ويَمُوتُ وَحْدَهُ، ويُبْعَثُ وحْدَهُ».
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القُرظى، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نفى عثمانُ أبا ذر إلى الرَّبذَةِ، وأصابه بها قَدَرُه، لم يكن معه أحدٌ إلا امرأتُه وغلامُه، فأوصاهما: أن غَسِّلانى وكَفِّنانى، ثم ضعانى على قارعة الطريق، فأوَّل رَكْب يمرُّ بكم فقولُوا: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، فلما مات، فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبدُ الله بن مسعود في رهط معه من أهل العِراق عُمَّارًا فلم يَرُعْهُمْ إلا بالجِنازة على ظهر الطَّريق قد كادت الإبلُ تَطَؤُها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، قال: فاستهلَّ عبدُ الله يبكى ويقول: صدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَمْشِى وَحْدَكَ، وتَمُوتُ وَحْدَكَ، وتُبْعَثُ وَحْدَكَ»، ثم نزل هو وأصحابه، فوارَوْه، ثم حَدَّثهم عبدُ الله بن مسعود حديثه، وما قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تَبُوك.
قلت: وفى هذه القصة نظر، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وغيره في قصة وفاته، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أُم ذر، قالت: لما حضرت أبا ذَر الوفاةُ، بَكَيْتُ، فقال: ما يُبكيكِ؟ فقلت: ما لى لا أبكى، وأنت تموتُ بفَلاة من الأرض، وليس عندى ثوبٌ يسعُك كفَنًا، ولا يدان لى في تغييبك؟ قال: أبشرى ولا تبكى، فإنى سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفلاةٍ مِنَ الأرض يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المُسْلمين» وليس أحَدٌ من أولئِكَ النَّفَرِ إلا وقد مات في قريةٍ وجمَاعةٍ، فأنا ذلِكَ الرَّجُلُ، فواللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصرى الطريق، فقُلت: أنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطعت الطُّرُقُ؟، فقال: اذهبى فتبصَّرى.